الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
وَهُوَ إِعْطَاءُ الشَّيْءِ مَعْنَى الشَّيْءِ، وَتَارَةً يَكُونُ فِي الْأَسْمَاءِ وَفِي الْأَفْعَالِ وَفِي الْحُرُوفِ؛ فَأَمَّا فِي الْأَسْمَاءِ فَهُوَ أَنْ تُضَمِّنَ اسْمًا مَعْنَى اسْمٍ؛ لِإِفَادَةِ مَعْنَى الِاسْمَيْنِ جَمِيعًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (الْأَعْرَافِ: 105) ضُمِّنَ " حَقِيقٌ " مَعْنَى " حَرِيصٍ " لِيُفِيدَ أَنَّهُ مَحْقُوقٌ بِقَوْلِ الْحَقِّ وَحَرِيصٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْأَفْعَالُ فَأَنْ تُضَمِّنَ فِعْلًا مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ، وَيَكُونَ فِيهِ مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ يَتَعَدَّى بِحَرْفٍ، فَيَأْتِي مُتَعَدِّيًا بِحَرْفٍ آخَرَ لَيْسَ مِنْ عَادَتِهِ التَّعَدِّي بِهِ، فَيُحْتَاجُ إِمَّا إِلَى تَأْوِيلِهِ أَوْ تَأْوِيلِ الْفِعْلِ لِيَصِحَّ تَعَدِّيهِ بِهِ. وَاخْتَلَفُوا أَيُّهُمَا أَوْلَى؟ التَّوَسُّعُ فِي الْحَرْفِ أَوِ التَّوَسُّعُ فِي الْفِعْلِ فَذَهَبَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّ التَّوَسُّعَ فِي الْحَرْفِ وَأَنَّهُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ غَيْرِهِ مِنَ الْحُرُوفِ أَوْلَى. وَذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَنَّ التَّوَسُّعَ فِي الْفِعْلِ وَتَعْدِيَتَهُ بِمَا لَا يَتَعَدَّى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى مَا يَتَعَدَّى بِذَلِكَ الْحَرْفِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّوَسُّعَ فِي الْأَفْعَالِ أَكْثَرُ. مِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (الْإِنْسَانِ: 6) فَضَمَّنَ " يَشْرَبُ " مَعْنَى " يَرْوِي "؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، فَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْبَاءُ، وَإِلَّا فَـ " يَشْرَبُ " يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، فَأُرِيدَ بِاللَّفْظِ الشُّرْبُ وَالرَّيُّ مَعًا، فَجَمَعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: التَّجَوُّزُ فِي الْحَرْفِ، وَهُوَ الْبَاءُ، فَإِنَّهَا بِمَعْنَى (مِنْ). وَقِيلَ: لَا مَجَازَ أَصْلًا، بَلِ الْعَيْنُ هَهُنَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَنْبُعُ مِنْهُ الْمَاءُ لَا إِلَى الْمَاءِ نَفْسِهِ؛ نَحْوَ: نَزَلْتُ بِعَيْنٍ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: مَكَانًا يُشْرَبُ بِهِ. وَعَلَى هَذَا: {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} (آلِ عِمْرَانَ: 188) قَالَهُ الرَّاغِبُ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَجَازِ؛ فَإِنَّ فِيهِ الْعُدُولَ عَنْ مُسَمَّاهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَيُرَادُ بِهِ غَيْرُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} (الْكَهْفِ: 77) فَإِنَّهُ اسْتَعْمَلَ " أَرَادَ " فِي مَعْنَى مُقَارَبَةِ السُّقُوطِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ الْإِرَادَةِ، وَإِنَّ مَنْ أَرَادَ شَيْئًا فَقَدْ قَارَبَ فِعْلَهُ، وَلَمْ يُرِدْ بِاللَّفْظِ هَذَا الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ الَّذِي هُوَ الْإِرَادَةُ أَلْبَتَّةَ، وَالتَّضْمِينُ أَيْضًا مَجَازٌ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يُوضَعْ لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَعًا، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَجَازٌ خَاصٌّ، يُسَمُّونَهُ بِالتَّضْمِينِ؛ تَفْرِقَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَجَازِ الْمُطْلَقِ. وَمِنَ التَّضْمِينِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 187) لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: رَفَثْتُ إِلَى الْمَرْأَةِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ بِمَعْنَى الْإِفْضَاءِ سَاغَ ذَلِكَ. وَهَكَذَا قَوْلُهُ: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} (النَّازِعَاتِ: 18) وَإِنَّمَا يُقَالُ: هَلْ لَكَ فِي كَذَا؟ لَكِنَّ الْمَعْنَى: أَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى. وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (الشُّورَى: 25) فَجَاءَ بِـ " عَنْ " لِأَنَّهُ ضَمَّنَ التَّوْبَةَ مَعْنَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ. وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 14) وَإِنَّمَا يُقَالُ: خَلَوْتُ بِهِ، لَكِنْ ضَمَّنَ " خَلَوْا " مَعْنَى ذَهَبُوا وَانْصَرَفُوا، وَهُوَ مُعَادِلٌ لِقَوْلِهِ: (لَقُوا) (الْبَقَرَةِ: 14) وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ " إِلَى " هُنَا بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَوْ بِمَعْنَى (مَعَ). وَقَالَ مَكِّيٌّ: إِنَّمَا لَمْ تَأْتِ الْبَاءُ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: خَلَوْتُ بِهِ: إِذَا سَخِرْتَ مِنْهُ، فَأَتَى بِـ " إِلَى " لِدَفْعِ هَذَا الْوَهْمِ. وَقَوْلُهُ: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (الْأَعْرَافِ: 16) قِيلَ: (الصِّرَاطُ) مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، أَيْ: لَأُكَرِّهَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ، أَوْ لَأُمَلِّلَنَّهُ لَهُمْ، وَ " أَقْعُدُ " وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ ضُمِّنَ مَعْنَى فِعْلٍ مُتَعَدٍّ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} (الْكَهْفِ: 28) ضُمِّنَ " تَعْدُ " مَعْنَى (تَنْصَرِفْ) فَعُدِّيَ بِـ " عَنْ "، قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ حَقُّ الْكَلَامِ: " لَا تَعْدُ عَيْنَيْكَ عَنْهُمْ " بِالنَّصْبِ؛ لِأَنَّ " تَعْدُ " مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ، فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّ " عَدَوْتَ " وَ " جَاوَزْتَ " بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَنْتَ لَا تَقُولُ: جَاوَزَ فُلَانٌ عَيْنَهُ عَنْ فُلَانٍ، وَلَوْ كَانَتِ التِّلَاوَةُ بِنَصْبِ الْعَيْنِ لَكَانَ اللَّفْظُ بِنَصْبِهِمَا مَحْمُولًا أَيْضًا عَلَى: لَا تَصْرِفْ عَيْنَكَ عَنْهُمْ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالَّذِي وَرَدَتْ بِهِ التِّلَاوَةُ مِنْ رَفْعِ الْعَيْنِ يَئُولُ إِلَى مَعْنَى النَّصْبِ فِيهَا؛ إِذْ كَانَ {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ} بِمَنْزِلَةِ " لَا تَنْصَرِفْ " وَمَعْنَاهُ: لَا تَصْرِفْ عَيْنَكَ عَنْهُمْ، فَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ إِلَى الْعَيْنِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا قَالَ: {وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ} (التَّوْبَةِ: 85) أَسْنَدَ الْإِعْجَابَ إِلَى الْأَمْوَالِ، وَالْمَعْنَى لَا تُعْجَبْ بِأَمْوَالِهِمْ. وَقَوْلُهُ: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} (إِبْرَاهِيمَ: 13) ضُمِّنَ مَعْنَى " لَتَدْخُلُنَّ " أَوْ " لَتَصِيرُنَّ " وَأَمَّا قَوْلُ شُعَيْبٍ: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ} (الْأَعْرَافِ: 89) فَلَيْسَ اعْتِرَافًا بِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ، بَلْ مُؤَوَّلٌ عَلَى مَا سَبَقَ، وَتَأْوِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ نِسْبَةِ فِعْلِ الْبَعْضِ إِلَى الْجَمَاعَةِ، أَوْ قَالَهُ عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ لِكَلَامِهِمْ، وَهَذَا أَحْسَنُ. وَقَوْلُهُ: {أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} ضُمِّنَ (لَا تُشْرِكْ) مَعْنَى: لَا تَعْدِلْ، وَالْعَدْلُ: التَّسْوِيَةُ، أَيْ: لَا تُسَوِّ بِهِ شَيْئًا. وَقَوْلُهُ: {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} (هُودٍ: 23) ضُمِّنَ مَعْنَى " أَنَابُوا " فَعُدِّيَ بِحَرْفِهِ. وَقَوْلُهُ: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} (الْقَصَصِ: 10) ضُمِّنَ: لَتُبْدِي بِهِ (الْقَصَصِ: 10) مَعْنَى: " تُخْبِرُ بِهِ " أَوْ " لِتُعْلِمَ " لِيُفِيدَ الْإِظْهَارُ مَعْنَى الْإِخْبَارِ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ قَدْ يَقَعُ سِرًّا غَيْرَ ظَاهِرٍ. وَقَوْلُهُ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (الْإِسْرَاءِ: 79) جَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ نَصْبَ مَقَامًا عَلَى الظَّرْفِ عَلَى تَضْمِينِ (يَبْعَثُكَ) مَعْنَى (يُقِيمُكَ). وَقَوْلُهُ: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} (يُونُسَ: 71) قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَمَنْ قَرَأَ " فَأَجْمِعُوا " بِالْقَطْعِ أَرَادَ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَاجْمَعُوا شُرَكَاءَكُمْ؛ كَقَوْلِهِ: مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا *** وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} (سَبَأٍ: 23) قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: عَدَّاهُ بِـ " مَنْ " لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى كَشْفِ الْفَزَعِ. وَقَوْلُهُ: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} (الْمَائِدَةِ: 54) فَإِنَّهُ يُقَالُ: ذَلَّ لَهُ لَا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ هُنَا ضُمِّنَ مَعْنَى التَّعَطُّفِ وَالتَّحَنُّنِ. وَقَوْلُهُ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 226) ضُمِّنَ (يُؤْلُونَ) (الْبَقَرَةِ: 226) مَعْنَى " يَمْتَنِعُونَ " مِنْ وَطْئِهِنَّ بِالْأَلِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى} (الصَّافَّاتِ: 8) أَيْ: لَا يُصْغُونَ. {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} (الْقَصَصِ: 85) أَيْ: أَنْزَلَ. {فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} (الْأَحْزَابِ: 38) أَيْ: أَحَلَّ لَهُ. {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (آلِ عِمْرَانَ: 55) أَيْ: مُمَيِّزُكَ. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} (يُونُسَ: 81) أَيْ: لَا يَرْضَى. {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} (فُصِّلَتْ: 6) أَيْ: أَنِيبُوا إِلَيْهِ وَارْجِعُوا. {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} (الْحَاقَّةِ: 29) أَيْ: زَالَ. {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (النُّورِ: 63) فَإِنَّهُ يُقَالُ: خَالَفْتُ زَيْدًا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ لِتَعَدِّيهِ بِالْجَارِّ، وَإِنَّمَا جَاءَ مَحْمُولًا عَلَى: يَنْحَرِفُونَ، أَوْ: يَزِيغُونَ. وَمِثْلُهُ تَعْدِيَةُ " رَحِيمٍ " بِالْبَاءِ فِي نَحْوِ: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (الْأَحْزَابِ: 43) حَمْلًا عَلَى (رَءُوفٍ) فِي نَحْوِ: رَءُوفٌ رَحِيمٌ (التَّوْبَةِ: 128) أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: " رَأَفْتُ بِهِ " وَلَا تَقُولُ: " رَحِمْتُ بِهِ "، وَلَكِنْ لَمَّا وَافَقَهُ فِي الْمَعْنَى تَنَزَّلَ مَنْزِلَتَهُ فِي التَّعْدِيَةِ. وَقَوْلُهُ: {إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (الْقَصَصِ: 24) ضُمِّنَ مَعْنَى: سَائِلٍ. {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} (الْمُطَفِّفِينَ: 2) قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ضُمِّنَ مَعْنَى " تَحَامَلُوا " فَعَدَّاهُ بِـ " عَلَى " وَالْأَصْلُ فِيهِ " مِنْ ".
تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: الْأَكْثَرُ أَنْ يُرَاعَى فِي التَّعْدِيَةِ مَا ضُمِّنَ مِنْهُ، وَهُوَ الْمَحْذُوفُ لَا الْمَذْكُورُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 187) أَيِ: الْإِفْضَاءُ. وَقَوْلِهِ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (الْإِنْسَانِ: 6) أَيْ: يُرْوَى بِهَا، وَغَيْرُهُ مِمَّا سَبَقَ. وَلَمْ أَجِدْ مُرَاعَاةَ الْمَلْفُوظِ بِهِ فِي التَّعْدِيَةِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} (الْأَنْبِيَاءِ: 60) عَلَى قَوْلِ ابْنِ الضَّائِعِ أَنَّهُ ضُمِّنَ " يُقَالُ " مَعْنَى " يُنَادَى " وَ " إِبْرَاهِيمُ " نَائِبٌ عَنِ الْفَاعِلِ؛ وَأَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ: كَيْفَ عُدِّيَ بِاللَّامِ، وَالنِّدَاءُ لَا يُتَعَدَّى بِهِ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّهُ رُوعِيَ الْمَلْفُوظُ بِهِ وَهُوَ الْقَوْلُ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: قُلْتُ لَهُ. الثَّانِي: قَوْلُهُ: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} (الْقَصَصِ: 12) فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ: كَيْفَ يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ بِالْمُرْضِعِ؟ فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ضُمِّنَ " حَرَّمَ " الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ، وَهُوَ الْمَنْعُ، فَاعْتُرِضَ: كَيْفَ عُدِّيَ بِـ " عَلَى " وَالْمَنْعُ لَا يُتَعَدَّى بِهِ؟ فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ رُوعِيَ صُورَةُ اللَّفْظِ. الثَّانِي: أَنَّ التَّضْمِينَ أَقْسَامُهُ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ مَا سَبَقَ؛ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي كِتَابِ " إِعْجَازِ الْقُرْآنِ ": هُوَ حُصُولُ مَعْنًى فِيهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ لَهُ بِاسْمٍ أَوْ صِفَةٍ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْهُ، ثُمَّ قَسَّمَهُ إِلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُفْهَمُ مِنَ الْبِنْيَةِ، كَقَوْلِكَ: مَعْلُومٌ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَالِمٍ. وَالثَّانِي: مِنْ مَعْنَى الْعِبَارَةِ كَالصِّفَةِ، فَضَارِبٌ يَدُلُّ عَلَى مَضْرُوبٍ. قَالَ: وَالتَّضْمِينُ كُلُّهُ إِيجَازٌ. قَالَ: وَذُكِرَ أَنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الْفَاتِحَةِ: 1) مِنْ بَابِ التَّضْمِينِ؛ لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ تَعْلِيمَ الِاسْتِفْتَاحِ فِي الْأُمُورِ بِاسْمِهِ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوِ التَّبَرُّكِ بِاسْمِهِ ". وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كِتَابِ " الْمَعَانِي الْمُبْتَدَعَةِ " أَنَّ التَّضْمِينَ وَاقِعٌ فِي الْقُرْآنِ خِلَافًا لِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْبَيَانِ، وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي الصَّافَّاتِ: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} (الصَّافَّاتِ: 168- 169). وَيُطْلَقُ التَّضْمِينُ أَيْضًا عَلَى إِدْرَاجِ كَلَامِ الْغَيْرِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ لِتَأْكِيدِ الْمَعْنَى، أَوْ لِتَرْتِيبِ النَّظْمِ، وَيُسَمَّى الْإِبْدَاعَ، كَإِبْدَاعِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حِكَايَاتِ أَقْوَالِ الْمَخْلُوقِينَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} (الْبَقَرَةِ:30). وَمِثْلُ مَا حَكَاهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ: {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (الْبَقَرَةِ: 11). وَقَوْلُهُ: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} (الْبَقَرَةِ: 13). وَقَالَتِ الْيَهُودُ (الْبَقَرَةِ: 113). وَمِثْلُهُ: وَقَالَتِ النَّصَارَى (الْبَقَرَةِ: 113) وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَكَذَلِكَ مَا أُودِعَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ اللُّغَاتِ الْأَعْجَمِيَّةِ. وَيَقْرُبُ مِنَ التَّضْمِينِ فِي إِيقَاعِ فِعْلٍ مَوْقِعَ آخَرَ إِيقَاعُ الظَّنِّ مَوْقِعَ الْيَقِينِ فِي الْأُمُورِ الْمُحَقَّقَةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 46). {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ} (الْبَقَرَةِ: 249). {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} (الْكَهْفِ: 53). {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} (ص: 24). {وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} (فُصِّلَتْ: 48). وَشَرَطَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي ذَلِكَ أَلَّا يَكُونَ مُتَعَلِّقُهُ حِسِّيًّا، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ فِي رَجُلٍ يَرَى حَاضِرًا: أَظُنُّ هَذَا إِنْسَانًا، وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَخْرُجْ إِلَى الْحِسِّ بَعْدُ، كَالْآيَاتِ السَّابِقَةِ. قَالَ الرَّاغِبُ فِي " الذَّرِيعَةِ ": " الظَّنُّ إِصَابَةُ الْمَطْلُوبِ بِضَرْبٍ مِنَ الْإِمَارَةِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ يَقِينٍ وَشَكٍّ، فَيَقْرُبُ تَارَةً مِنْ طَرَفِ الْيَقِينِ، وَتَارَةً مِنْ طَرَفِ الشَّكِّ، فَصَارَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُفَسِّرُونَهُ بِهِمَا؛ فَمَتَى رُئِيَ إِلَى طَرَفِ الْيَقِينِ أَقْرَبَ اسْتُعْمِلَ مَعَهُ " أَنَّ " الْمُثَقَّلَةُ وَالْمُخَفَّفَةُ فِيهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 46) {وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} (الْأَعْرَافِ: 171) وَمَتَى رُئِيَ إِلَى الشَّكِّ أَقْرَبَ اسْتُعْمِلَ مَعَهُ " أَنْ " الَّتِي لِلْمَعْدُومِينَ مِنَ الْفِعْلِ، نَحْوَ: ظَنَنْتُ أَنْ يَخْرُجَ. قَالَ: وَإِنَّمَا اسْتُعْمِلَ الظَّنُّ بِمَعْنَى الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 46) لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ عِلْمَ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِهِمْ فِي الْآخِرَةِ كَالظَّنِّ فِي جَنْبِ الْعِلْمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ فِي الدُّنْيَا لَا يَكَادُ يَحْصُلُ إِلَّا لِلنَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ الْمَعْنِيِّينَ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (الْحُجُرَاتِ: 15) وَالظَّنُّ مَتَى كَانَ عَنْ أَمَارَةٍ قَوِيَّةٍ فَإِنَّهُ يُمْدَحُ بِهِ، وَمَتَى كَانَ عَنْ تَخْمِينٍ لَمْ يُمْدَحْ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الْحُجُرَاتِ: 12). وَجَوَّزَ أَبُو الْفَتْحِ فِي قَوْلِهِ: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} (الْمُطَفِّفِينَ: 4، 5) أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْيَقِينُ، وَأَنْ تَكُونَ عَلَى بَابِهَا، وَهُوَ أَقْوَى فِي الْمَعْنَى، أَيْ: فَقَدْ يَمْنَعُ مِنْ هَذَا التَّوَهُّمُ، فَكَيْفَ عِنْدَ تَحْقِيقِ الْأَمْرِ؟ فَهَذَا أَبْلَغُ. كَقَوْلِهِ: " يَكْفِيكَ مِنْ شَرٍّ سَمَاعُهُ " أَيْ: لَوْ تَوَهَّمَ الْبَعْثَ وَالنُّشُورَ، وَمَا هُنَاكَ مِنْ عِظَمِ الْأَمْرِ وَشِدَّتِهِ لَاجْتَنَبَ الْمَعَاصِيَ، فَكَيْفَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْأَمْرِ! وَهَذَا أَبْلَغُ. وَقِيلَ: آيَتَا الْبَقَرَةِ بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ، وَالْبَاقِي بِمَعْنَى الْيَقِينِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الِاعْتِقَادَ يَقْبَلُ التَّشْكِيكَ بِخِلَافِ الْيَقِينِ، وَإِنِ اشْتَرَكَا جَمِيعًا فِي وُجُوبِ الْجَزْمِ بِهِمَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} (الْحَاقَّةِ: 20). وَقَدْ جَاءَ عَكْسُهُ وَهُوَ التَّجَوُّزُ عَنِ الظَّنِّ بِالْعِلْمِ، فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} (يُوسُفَ: 81) وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِلْمًا جَازِمًا بَلِ اعْتِقَادًا ظَنِّيًّا. وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الْإِسْرَاءِ: 36) وَكَانَ يَحْكُمُ بِالظَّنِّ وَبِالظَّاهِرِ. وَقَوْلِهِ: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} (الْمُمْتَحَنَةِ: 10) وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالِامْتِحَانِ فِي الْحُكْمِ، وَوَجْهُ التَّجَوُّزِ بَيْنَ الظَّنِّ وَالْعِلْمِ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ بَيْنَ الظَّنِّ وَالْعِلْمِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَهُوَ الرُّجْحَانُ، فَتَجُوزُ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (الْبَقَرَةِ: 233). {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} (الْبَقَرَةِ: 228). {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} (الرَّعْدِ: 24). {الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} (يُوسُفَ: 92). وَقَوْلِهِ: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}... (الْمَائِدَةِ: 89) الْآيَةَ، وَلِهَذَا جَعَلَهَا الْعُلَمَاءُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْوَاجِبِ. " فَلَا رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ " (الْبَقَرَةِ: 197) عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ أَيْ: لَا تَرْفُثُوا وَلَا تَفْسُقُوا. {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 272) قَالُوا: هُوَ خَبَرٌ، وَتَأْوِيلُهُ: نَهْيٌ، أَيْ: لَا تُنْفِقُوا إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (الْوَاقِعَةِ: 79) وَكَقَوْلِهِ: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} (الْبَقَرَةِ: 233) عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ نَهْيٌ مَجْزُومٌ، أَعْنِي قَوْلَهُ: لَا يَمَسُّهُ (الْوَاقِعَةِ: 79) وَلَكِنْ ضُمَّتْ إِتْبَاعًا لِلضَّمِيرِ؛ كَقَوْلِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّا لَمْ نَرُدُّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ. وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} (الْبَقَرَةِ: 83) ضُمِّنَ (لَا تَعْبُدُونَ) مَعْنَى (لَا تَعْبُدُوا) بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (الْبَقَرَةِ: 83) وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ فِي عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ. لَكِنْ إِنْ كَانَ " حُسْنًا " مَعْمُولُا لِـ " أَحْسِنُوا " فَعَطْفُ " قُولُوا " عَلَيْهِ أَوْلَى؛ لِاتِّفَاقِهِمَا لَفْظًا وَمَعْنًى، وَإِنْ كَانَ التَّقْدِيرُ " وَيُحْسِنُونَ " فَهُوَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالْعَطْفُ عَلَى الْقَرِيبِ أَوْلَى، وَقِيلَ: إِنَّ (لَا تَعْبُدُونَ) أَبْلَغُ مِنْ صَرِيحِ النَّهْيِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيهَامِ أَنَّ الْمَنْهِيَّ يُسَارِعُ إِلَى الِانْتِهَاءِ، فَهُوَ مُخْبَرٌ عَنْهُ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 84) فِي مَوْضِعِ " لَا تَسْفِكُوا ". وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الصَّفِّ {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (الْآيَةَ: 13) عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (الصَّفِّ: 11) وَلِهَذَا جُزِمَ الْجَوَابُ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} (يس: 55) إِلَى قَوْلِهِ: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ} (يس: 59) فَإِنَّ الْمَقَامَ يَشْتَمِلُ عَلَى تَضْمِينِ {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ} (يس: 55) مَعْنَى الطَّلَبِ، بِدَلِيلِ مَا قَبْلَهُ: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} (يس: 54) فَإِنَّهُ كَلَامٌ وَقْتَ الْحَشْرِ لِوُرُودِهِ مَعْطُوفًا بِالْفَاءِ عَلَى قَوْلِهِ: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} (يس: 53) وَعَامٌّ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: {لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} (يس: 54) وَإِنَّ الْخِطَابَ الْوَارِدَ بَعْدَهُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (يس: 54) خِطَابٌ عَامٌّ لِأَهْلِ الْمَحْشَرِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} (يس: 55) إِلَى قَوْلِهِ: {أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} (يس: 59) مُقَيَّدًا بِهَذَا الْخِطَابِ لِكَوْنِهِ تَفْصِيلًا لِمَا أَجْمَلَهُ: {وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (يس: 54) وَإِنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ مِنْكُمْ يَا أَهْلَ الْمَحْشَرِ، ثُمَّ جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} (يس: 55) يُقَالُ لَهُمْ حِينَ يُسَاقُ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ، بِتَنْزِيلِ مَا هُوَ لِلتَّكْوِينِ مَنْزِلَةَ الْكَائِنِ، أَيْ: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ مِنْكُمْ يَا أَهْلَ الْمَحْشَرِ يَئُولُ حَالُهُمْ إِلَى أَسْعَدِ حَالٍ، وَالتَّقْدِيرُ حِينَئِذٍ: لِيَمْتَازُوا عَنْكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ " هَكَذَا قَرَّرَهُ السَّكَّاكِيُّ فِي " الْمِفْتَاحِ ". قِيلَ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ طَلَبِيَّةً وَمَعْنَاهَا أَمْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالذَّهَابِ إِلَى الْجَنَّةِ، فَلْيَكُنِ الْخِطَابُ مَعَهُمْ لَا مَعَ أَهْلِ الْمَحْشَرِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ فِي التَّخْيِيرِ هُنَا هُوَ الْمَأْمُورُ فِيهَا. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ تَضْمِينَ أَصْحَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِلطَّلَبِ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْجُمْلَةَ نَفْسَهَا طَلَبِيَّةٌ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنْ يُقَدَّرَ جُمْلَةٌ إِنْشَائِيَّةٌ بَعْدَهَا، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (الْبَقَرَةِ: 83). وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (الصَّفِّ: 11- 12) فَإِنَّهُ يُقَالُ: كَيْفَ جَاءَ الْجَزْمُ فِي جَوَابِ الْخَبَرِ؟ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ جَازَ ذَلِكَ؛ إِذِ الْمَعْنَى: آمِنُوا وَجَاهِدُوا. وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: لَا يَكُونُ: يَغْفِرْ لَكُمْ (الصَّفِّ: 12) جَوَابًا لِـ (هَلْ أَدُلُّكُمْ) (الصَّفِّ: 10) وَإِنْ كَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ قَدْ قَالَهُ؛ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ تَحْصُلُ بِالْإِيمَانِ لَا بِالدَّلَالَةِ. انْتَهَى. وَقَدْ يُقَالُ: الدَّلَالَةُ سَبَبُ السَّبَبِ. إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَإِنَّمَا يَجِيءُ الْأَمْرُ بِلَفْظِ الْخَبَرِ الْحَاصِلِ تَحْقِيقًا لِثُبُوتِهِ، وَأَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا وَلَا بُدَّ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَفِيهِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى نُقِلَتْ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ أَنَّ هَذَا خَبَرٌ حَقِيقَةً غَيْرُ مَصْرُوفٍ عَنْ جِهَةِ الْخَبَرِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ خَبَرٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ لَيْسَ خَبَرًا عَنِ الْوَاقِعِ، حَتَّى يَلْزَمَ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْإِشْكَالِ، وَهُوَ احْتِمَالُ عَدَمِ وُقُوعِ مُخْبَرِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ الْخَبَرَ عَنِ الْوَاقِعِ؛ أَمَّا الْخَبَرُ عَنِ الْحُكْمِ فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ خِلَافُهُ أَصْلًا.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} (مَرْيَمَ: 75). وَقَوْلِهِ: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} (التَّوْبَةِ: 53). وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (الْبَقَرَةِ: 125). وَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ} (النَّمْلِ: 8- 9- 10) فَقَوْلُهُ: (وَأَلْقِ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَنْ بُورِكَ فَـ (أَلْقِ) وَإِنْ كَانَ إِنْشَاءً لَفْظًا لَكِنَّهُ خَبَرٌ مَعْنًى، وَالْمَعْنَى: " فَلَمَّا جَاءَهَا قِيلَ: بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ، وَقِيلَ: أَلْقِ ". وَالْمُوجِبُ لِهَذَا قَوْلُ النُّحَاةِ: إِنَّ " أَنْ " هَذِهِ مُفَسِّرَةٌ لَا تَأْتِي إِلَّا بَعْدَ فِعْلٍ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ، وَإِذَا قِيلَ: كَتَبْتُ إِلَيْهِ أَنِ ارْجِعْ، وَنَادَانِي أَنْ قُمْ، كُلُّهُ بِمَنْزِلَةِ: قُلْتُ لَهُ: ارْجِعْ، وَقَالَ لِي: قُمْ. كَذَا قَالَهُ صَاحِبُ " الْمِفْتَاحِ ". وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ " بُورِكَ " خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى مَمْنُوعٌ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً وَهُوَ إِنْشَاءٌ؛ وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا التَّقْدِيرَ الْفَارِسِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَتَانِ مُتَّفِقَتَيْنِ فِي مَعْنَى الْإِنْشَاءِ، فَتَكُونُ مِثْلَ {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} (الْبَقَرَةِ: 83). وَقَوْلُهُ: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} (الْأَنْعَامِ: 27) إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (الْأَنْعَامِ: 28) فَإِنَّهُ يُقَالُ: كَيْفَ وَرَدَ التَّمَنِّي عَلَى التَّكْذِيبِ وَهُوَ إِنْشَاءٌ؟ وَأَجَابَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى الْعِدَةِ، وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى مِنَ الشَّرْطِ وَالْخَبَرِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ رُدِدْنَا لَمْ نُكَذِّبْ وَآمَنَّا، وَالشَّرْطُ خَبَرٌ، فَصَحَّ وُرُودُ التَّكْذِيبِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} (الْعَنْكَبُوتِ: 12) أَيْ: وَنَحْنُ حَامِلُونَ. بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (الْعَنْكَبُوتِ: 12) وَالْكَذِبُ إِنَّمَا يَرِدُ عَلَى الْخَبَرِ. وَقَوْلُهُ: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} (مَرْيَمَ: 38) تَقْدِيرُهُ: مَا أَسْمَعَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَتَعَجَّبْ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُ دَلَّ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ لَيْسَ أَمْرًا حَقِيقِيًّا ظُهُورُ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي الْأَوَّلِ، وَفِعْلُ الْأَمْرِ لَا يُبْرَزُ فَاعِلُهُ أَبَدًا. وَوَجْهُ التَّجَوُّزِ فِي وَضْعِ الطَّلَبِ مَوْضِعَ الْخَبَرِ فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ أَنَّ الْأَمْرَ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِ دَاعِيَةً لِلْأَمْرِ؛ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَذَلِكَ، فَإِذَا عُبِّرَ عَنِ الْخَبَرِ بِلَفْظِ الْأَمْرِ أَشْعَرَ ذَلِكَ بِالدَّاعِيَةِ، فَيَكُونُ ثُبُوتُهُ وَصِدْقُهُ أَقْرَبَ، هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِكَلَامِ الْعَرَبِ لَا لِكَلَامِ اللَّهِ؛ إِذْ يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ الدَّاعِيَةُ لِلْفِعْلِ. بَقِيَ الْكَلَامُ فِي أَيِّهِمَا أَبْلَغُ؟ هَذَا الْقِسْمُ أَوِ الَّذِي قَبْلَهُ؟. قَالَ الْكَوَاشِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} (مَرْيَمَ: 75) الْأَمْرُ بِمَعْنَى الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِهِ اللُّزُومَ؛ نَحْوَ: إِنْ زُرْتَنَا فَلْنُكْرِمْكَ، يُرِيدُونَ تَأْكِيدَ إِيجَابِ الْإِكْرَامِ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} (الْبَقَرَةِ: 83) وُرُودُ الْخَبَرِ، وَالْمُرَادُ الْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ أَبْلَغُ مِنْ صَرِيحِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ كَأَنَّهُ سُورِعَ فِيهِ إِلَى الِامْتِثَالِ وَالْخَبَرِ عَنْهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ ": فِي بَابِ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا فِي النِّكَاحِ: وَقَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَلَا يَسُومُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ: (وَلَا يَسُومُ) بِالْوَاوِ وَ: (لَا يَخْطُبُ) بِالرَّفْعِ، وَكِلَاهُمَا لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي النَّهْيِ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الشَّارِعِ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُ خِلَافِهِ، وَالنَّهْيُ قَدْ يَقَعُ مُخَالَفَتُهُ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: عَامِلُوا هَذَا النَّهْيَ مُعَامَلَةَ خَبَرِ الْحَتْمِ، ثُمَّ قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَلَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا يَجُوزُ فِي " تَسْأَلُ " الرَّفْعُ وَالْكَسْرُ، وَالْأَوَّلُ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ النَّهْيُ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ: " لَا يَخْطُبُ وَلَا يَسُومُ " وَالثَّانِي عَلَى النَّهْيِ الْحَقِيقِيِّ. انْتَهَى.
فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} (يس: 30) قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ: فَيَا لَهَا مِنْ حَسْرَةٍ، وَالْحَسْرَةُ فِي اللُّغَةِ أَشَدُّ النَّدَمِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ يَبْقَى حَسِيرًا. وَحَكَى أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ خَالَوَيْهِ فِي كِتَابِ " الْمُبْتَدَأِ " عَنِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ هَذِهِ مِنْ أَصْعَبِ مَسْأَلَةٍ فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْحَسْرَةَ لَا تُنَادَى وَإِنَّمَا تُنَادَى الْأَشْخَاصُ؛ لِأَنَّ فَائِدَتَهُ التَّنْبِيهُ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى عَلَى التَّعَجُّبِ؛ كَقَوْلِهِ: يَا عَجَبًا لِمَ فَعَلْتُ! {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ} (الزُّمَرِ: 56) وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: الْعَجَبُ. قِيلَ: فَكَأَنَّ التَّقْدِيرَ: يَا عَجَبًا احْضُرْ، يَا حَسْرَةً احْضُرِي. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: " يَا حَسْرَةَ الْعِبَادِ ". وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْأَصْلُ: " يَا حَسْرَتَاهُ " ثُمَّ أَسْقَطُوا الْهَاءَ تَخْفِيفًا، وَلِهَذَا قَرَأَ عَاصِمٌ: " يَا أَسَفَاهُ عَلَى يُوسُفَ ". وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي كِتَابِ " الْفَسْرِ " مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْحَسْرَةُ مِمَّا يَصِحُّ نِدَاؤُهُ لَكَانَ هَذَا وَقْتَهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا بُشْرَى (يُوسُفَ: 19) فَقَالُوا: مَعْنَى النِّدَاءِ فِيمَا لَا يَعْقِلُ تَنْبِيهُ الْمُخَاطَبِ وَتَوْكِيدُ الْقِصَّةِ، فَإِذَا قُلْتَ: يَا عَجَبًا، فَكَأَنَّكَ قُلْتَ: اعْجَبُوا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا قَوْمُ أَبْشِرُوا. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ فِي " الْخَاطِرِيَّاتِ ": وَقَدْ تُوضَعُ الْجُمْلَةُ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ مَوْضِعَ الْمَفْعُولِ بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} (غَافِرٍ: 80) بَعْدَ قَوْلِهِ: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا} (غَافِرٍ: 79) الْمَعْنَى: وَلِتَنْتَفِعُوا بِهَا عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا} (غَافِرٍ: 79) وَعَلَى هَذَا قَالَ: {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} (غَافِرٍ: 80) وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} (غَافِرٍ: 79) أَيْ: وَلِتَأْكُلُوا مِنْهَا. وَلِذَلِكَ أَتَى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} (غَافِرٍ: 80) فَعَطَفَ الْجُمْلَةَ مِنَ الْفِعْلِ وَمَرْفُوعِهِ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (الْمُؤْمِنُونَ: 52) أَيْ: وَلِأَنِّي رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ، فَوَضَعَ الْجُمْلَةَ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ مَوْضِعَ الْمَفْعُولِ لَهُ. وَبِهَذَا يَبْطُلُ تَعَلُّقُ مَنْ تَعَلَّقَ عَلَى ثُبُوتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (التَّوْبَةِ: 3) وَقَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ الِابْتِدَاءِ لِجَوَازِ تَقْدِيرِ: وَأَذَانٌ بِأَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ، وَبِأَنَّ رَسُولَهُ كَذَلِكَ.
فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْجُمُوعَ يَقَعُ بَعْضُهَا مَوْقِعَ بَعْضٍ؛ لِاشْتِرَاكِهَا فِي مُطْلَقِ الْجَمْعِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} (سَبَأٍ: 27) فَإِنَّ الْمَجْمُوعَ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ لِلْقِلَّةِ، وَغُرَفُ الْجَنَّةِ لَا تُحْصَى. وَقَوْلِهِ: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} (آلِ عِمْرَانَ: 163) وَرُتَبُ النَّاسِ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنَ الْعَشْرَةِ لَا مَحَالَةَ. وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} (الزُّمَرِ: 42). وَقَوْلُهُ: {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} (النَّمْلِ: 14) وَهُوَ كَثِيرٌ. وَقِيلَ: سَبَبُ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى دُخُولُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ الْجِنْسِيَّةِ؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَكْثِيرًا لَهَا، وَكَانَ دُخُولُهَا عَلَى جَمْعِ الْقِلَّةِ أَوْلَى مِنْ دُخُولِهَا عَلَى جَمْعِ الْكَثْرَةِ، إِشَارَةً إِلَى قِلَّةِ مَنْ يَكُونُ فِيهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِيهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ. وَقَدْ نَصَّ سُبْحَانَهُ عَلَى قِلَّتِهِمْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} (ص 24) فَيَكُونُ التَّكْثِيرُ الدَّاخِلُ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ (سَبَأٍ: 37) لَا مِنْ جِهَةِ وَضْعِ جَمْعِ الْقِلَّةِ مَوْضِعَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ مَا اقْتَضَتْهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ. وَاعْلَمْ أَنَّ جُمُوعَ التَّكْثِيرِ الْأَرْبَعَةَ وَجَمْعَيِ التَّصْحِيحِ، أَعْنِي جَمْعَ التَّأْنِيثِ وَجَمْعَ التَّذْكِيرِ، كُلُّ ذَلِكَ لِلْقِلَّةِ؛ أَمَّا جُمُوعُ التَّكْسِيرِ فَبِالْوَضْعِ، وَأَمَّا جَمْعَا التَّصْحِيحِ؛ فَلِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى التَّثْنِيَةِ، وَهِيَ أَقَلُّ الْعَدَدِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ الْمُشَابِهُ لَهَا بِمَنْزِلَتِهَا فِي الْقِلَّةِ، وَمَا عَدَاهَا مِنَ الْجُمُوعِ فَيَرِدُ تَارَةً لِلْقِلَّةِ وَتَارَةً لِلْكَثْرَةِ بِحَسْبِ الْقَرَائِنِ، قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (الْفَاتِحَةِ: 7) هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (الْبَقَرَةِ: 2) {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الْبَقَرَةِ: 5) {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (الْبَقَرَةِ: 11) {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} (الْبَقَرَةِ: 12) مُسْتَهْزِئُونَ (الْبَقَرَةِ: 14) {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (الْبَقَرَةِ: 16) {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} (الْبَقَرَةِ: 28) {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (الْبَقَرَةِ: 31) {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الْبَقَرَةِ: 31) {بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 20) {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 44) {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} (الطَّلَاقِ: 1) {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (التَّوْبَةِ: 70) {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 85) {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} (الْبَقَرَةِ: 154) {وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى} (الْبَقَرَةِ: 185) {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (الْبَقَرَةِ: 197) {بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (الْمَائِدَةِ: 89) {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (الْبَقَرَةِ: 232). {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} (الْبَقَرَةِ: 238) فَإِنْ قُلْتَ: لَيْسَ هَذَا مِنْهُ، بَلْ هِيَ لِلْقِلَّةِ؛ لِأَنَّهَا خَمْسٌ. قُلْتُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا صَحَّ {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} (الْبَقَرَةِ: 236) {فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} (الْبَقَرَةِ: 235) فَالْمُرَادُ مِنْهَا وَاحِدٌ، وَالْجَوَابُ عَنْ أَحَدِهِمَا الْجَوَابُ عَنِ الْآخَرِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} (الْبَقَرَةِ: 266) {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} (الْبَقَرَةِ: 271) {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ} (آلِ عِمْرَانَ: 17) الْآيَةَ {وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (الْأَحْزَابِ: 35) الْآيَةَ. وَلَا تُحْصَى كَثْرَةً. وَمِنْ شَوَاهِدِ مَجِيءِ جَمْعِ الْقِلَّةِ مُرَادًا بِهِ الْكَثْرَةُ قَوْلُ حَسَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَنَا الْجَفَنَاتُ الْغُرُّ يَلْمَعْنَ فِي الضُّحَى *** وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دَمًا وَحُكِيَ أَنَّ النَّابِغَةَ قَالَ لَهُ: قَدْ قَلَّلْتَ جَفَنَاتِكَ وَأَسْيَافَكَ. وَطَعَنَ الْفَارِسِيُّ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ لِوُجُودِ وَضْعِ جَمْعِ الْقِلَّةِ مَوْضِعَ الْكَثْرَةِ فِيمَا لَهُ جَمْعُ كَثْرَةٍ، وَفِيمَا لَا جَمْعَ كَثْرَةٍ لَهُ فِي كَلَامِهِمْ، وَصَحَّحَهَا بَعْضُهُمْ. قَالَ: يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي لِحَسَّانَ تَجَنُّبُ اللَّفْظِ الَّذِي أَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْقِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي اللِّسَانِ وَضْعُهُ لِقَرِينَةٍ، إِذَا كَانَ الْمَوْضِعُ مَوْضِعَ مَدْحٍ، أَوْ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَتِ الْقِلَّةُ تُوضَعُ لِمَعْنَى الْكَثْرَةِ لَكِنْ لَيْسَ فِي كُلِّ مَقَامٍ. وَمِنَ الْمُشْكِلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} (الْبَقَرَةِ: 245) فَإِنَّ (أَضْعَافًا) جَمْعُ قِلَّةٍ، فَكَيْفَ جَاءَ بَعْدَ كَثْرَةٍ؟! وَالْجَوَابُ أَنَّ جَمْعَ الْقِلَّةِ يُسْتَعْمَلُ مُرَادًا بِهِ الْكَثْرَةُ، وَهَذَا مِنْهُ.
تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: إِنَّمَا يُسْأَلُ عَنْ حِكْمَةِ وَضْعِ جَمْعِ الْقِلَّةِ مَوْضِعَ الْكَثْرَةِ ذَلِكَ حَيْثُ كَانَ لَهُ جَمْعُ كَثْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَلَا؛ كَقَوْلِهِ: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} (الْبَقَرَةِ: 184) فَإِنَّ " أَيَّامًا " أَفْعَالٌ مَعَ أَنَّهَا ثَلَاثُونَ، لَكِنْ لَيْسَ لِلْيَوْمِ جَمْعٌ غَيْرُهُ، وَمِنْ ثَمَّ أَفْرَدَ السَّمْعَ وَجَمَعَ الْأَبْصَارَ فِي قَوْلِهِ: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 7) لِأَنَّ " فَعْلًا " سَاكِنَ الْعَيْنِ صَحِيحَهَا لَا يُجْمَعُ عَلَى (أَفْعَالٍ) غَالِبًا وَلَيْسَ لَهُ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ اكْتَفَى بِدَلَالَةِ الْجِنْسِ عَلَى الْجَمْعِ. وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا (أَنْفُسَكُمْ) عَلَى كَثْرَتِهَا فِي الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ جَاءَ: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} (التَّكْوِيرِ: 7) وَحِكْمَتُهُ هُنَا ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ اسْتِيعَابُ جَمِيعِ الْخَلْقِ فِي الْمَحْشَرِ. وَنَظِيرُهُ: {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} (الْبَقَرَةِ: 266) لِإِمْكَانِ " الثِّمَارِ " وَلَيْسَ رَأْسَ آيَةٍ. وَمِنْهُ: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} (آلِ عِمْرَانَ: 7) لِإِمْكَانِ " آيٍ " وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ لِطَلَبِ الْمُشَاكَلَةِ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (آلِ عِمْرَانَ: 7) فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ الْمُشَاكَلَةِ؛ لِإِمْكَانِ " أُخْرَيَاتٌ ". وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (الْبَقَرَةِ: 25) وَلَيْسَ رَأْسَ آيَةٍ، وَلَا فِيهِ مُشَاكَلَةٌ؛ لِإِمْكَانِ " الْأَنْهُرِ ". وَقَدْ جَاءَ (أَنْفُسُ) لِلْقِلَّةِ، كَقَوْلِهِ: {وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} (آلِ عِمْرَانَ: 61) وَقِيلَ: الْمُرَادُ نَفْسَانِ، مِنْ بَابِ: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (التَّحْرِيمِ: 4). الثَّانِي: إِنَّمَا يَتِمُّ فِي الْمُنَكَّرِ، أَمَّا الْمُعَرَّفُ فَيُسْتَغْنَى بِالْعُمُومِ عَنْ ذَلِكَ، وَبِهَذَا يَخْدِشُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا سَبَقَ جَعْلُهُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ. وَقَدْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنَ الثَّمَرَاتِ (الْبَقَرَةِ: 22): إِنَّهُ جَمْعُ قِلَّةٍ وُضِعَ مَوْضِعَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ، وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ " الْ " فِي الثَّمَرَاتِ لِلْعُمُومِ، فَيَصِيرُ كَالثِّمَارِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى ارْتِكَابِ وَضْعِ جَمْعِ قِلَّةٍ مَوْضِعَ جَمْعِ كَثْرَةٍ، وَكَذَلِكَ بَيْتُ حَسَّانَ السَّابِقُ، فَإِنَّ الْجَفَنَاتِ مُعَرَّفَةٌ بِـ " الْ " وَ " أَسْيَافَنَا " مُضَافٌ، فَيَعُمُّ.
يَكْثُرُ فِي تَأْوِيلِهِ بِمُذَكَّرٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} (الْبَقَرَةِ: 275) عَلَى تَأْوِيلِهَا بِالْوَعْظِ. وَقَوْلِهِ: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} (ق: 11) عَلَى تَأْوِيلِ الْبَلْدَةِ بِالْمَكَانِ، وَإِلَّا لَقَالَ: مَيْتَةٌ. وَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي} (الْأَنْعَامِ: 78) أَيِ الشَّخْصُ أَوِ الطَّالِعُ. وَقَوْلِهِ: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (الْأَعْرَافِ: 85) أَيْ: بَيَانٌ وَدَلِيلٌ وَبُرْهَانٌ. وَقَوْلِهِ: {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا} (الْأَنْعَامِ: 6). وَإِنَّمَا يُتْرَكُ التَّأْنِيثُ كَمَا يُتْرَكُ فِي صِفَاتِ الْمُذَكَّرِ، لَا كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: امْرَأَةٌ مِعْطَارٌ؛ لِأَنَّ السَّمَاءَ بِمَعْنَى الْمَطَرِ مُذَكَّرٌ، قَالَ: إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ *** رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا وَيُجْمَعُ عَلَى أَسْمِيَةٍ وَسُمِّيٍّ، قَالَ الْعَجَّاجُ: تَلُفُّهُ الْأَرْوَاحُ وَالسُّمِّيُّ *** وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} (النِّسَاءِ: 8) إِلَى قَوْلِهِ: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} (النِّسَاءِ: 8) ذَكَّرَ الضَّمِيرَ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِالْقِسْمَةِ إِلَى الْمَقْسُومِ. وَقَوْلِهِ: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} (النَّحْلِ: 66) ذَهَبَ بِالْأَنْعَامِ إِلَى مَعْنَى النَّعَمِ، أَوْ حَمَلَهُ عَلَى مَعْنَى الْجَمْعِ. وَقَوْلِهِ: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (الْأَعْرَافِ: 56) وَلَمْ يَقُلْ: قَرِيبَةٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: ذُكِّرَتْ عَلَى مَعْنَى الْإِحْسَانِ، وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الْعَرَبَ تُفَرِّقُ بَيْنَ النَّسَبِ وَالْقُرْبِ مِنَ الْمَكَانِ، فَيَقُولُونَ: هَذِهِ قَرِيبَتِي مِنَ النَّسَبِ، وَقَرِيبِي مِنَ الْمَكَانِ، فَعَلُوا ذَلِكَ فَرْقًا بَيْنَ قُرْبِ النَّسَبِ وَالْمَكَانِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا قَرُبَ مِنْ مَكَانٍ وَنَسَبٍ، فَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مِنَ التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ؛ يُرِيدُ أَنَّكَ إِذَا أَرَدْتَ الْقُرْبَ مِنَ الْمَكَانِ قُلْتَ: زَيْدٌ قَرِيبٌ مِنْ عَمْرٍو، وَهِنْدٌ قَرِيبَةٌ مِنَ الْعَبَّاسِ، فَكَذَا فِي النَّسَبِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: ذُكِّرَ " قَرِيبٌ " لِتَذْكِيرِ الْمَكَانِ، أَيْ: مَكَانًا قَرِيبًا. وَرَدَّهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ بِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَنُصِبَ " قَرِيبٌ " عَلَى الظَّرْفِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ هُنَا الْمَطَرُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ مَا يَقْتَضِيهِ، فَحُمِلَ الْمُذَكَّرُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لِأَنَّ الرَّحْمَةَ وَالْغُفْرَانَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ؛ وَقِيلَ: لِأَنَّهَا وَالرَّحِمَ سَوَاءٌ. وَمِنْهُ: {وَأَقْرَبَ رُحْمًا} (الْكَهْفِ: 81) فَحَمَلُوا الْخَبَرَ عَلَى الْمَعْنَى، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} (الْكَهْفِ: 98). وَقِيلَ: الرَّحْمَةُ مَصْدَرٌ، وَالْمَصَادِرُ كَمَا لَا تُجْمَعُ لَا تُؤَنَّثُ. وَقِيلَ: " قَرِيبٌ " عَلَى وَزْنِ " فَعِيلٌ " وَ " فَعِيلٌ " يَسْتَوِي فِيهَا الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ؛ حَقِيقِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهِيَ رَمِيمٌ (يس: 78). وَقِيلَ: مِنْ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، مَعَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَحْذُوفِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّ مَكَانَ رَحْمَةِ اللَّهِ قَرِيبٌ، ثُمَّ حَذَفَ الْمَكَانَ وَأَعْطَى الرَّحْمَةَ إِعْرَابَهُ وَتَذْكِيرَهُ. وَقِيلَ: مِنْ حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَهُ، أَيْ: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ شَيْءٌ قَرِيبٌ أَوْ لَطِيفٌ، أَوْ بِرٌّ، أَوْ إِحْسَانٌ. وَقِيلَ: مِنْ بَابِ إِكْسَابِ الْمُضَافِ حُكْمَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، إِذَا كَانَ صَالِحًا لِلْحَذْفِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالثَّانِي، وَالْمَشْهُورُ فِي هَذَا تَأْنِيثُ الْمُذَكَّرِ لِإِضَافَتِهِ إِلَى مُؤَنَّثٍ، كَقَوْلِهِ: مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ *** أَعَالِيهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ فَقَالَ: " تَسَفَّهَتْ " وَالْفَاعِلُ مُذَكَّرٌ؛ لِأَنَّهُ اكْتَسَبَ تَأْنِيثًا مِنَ الرِّيَاحِ؛ إِذِ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ جَائِزٌ، وَإِذَا كَانَتِ الْإِضَافَةُ عَلَى هَذَا تُعْطِي الْمُضَافَ تَأْنِيثًا لَمْ يَكُنْ لَهُ، فَلَأَنْ تُعْطِيَهُ تَذْكِيرًا لَمْ يَكُنْ لَهُ كَمَا فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَحَقُّ وَأَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّذْكِيرَ أَوْلَى وَالرُّجُوعَ إِلَيْهِ أَسْهَلُ مِنَ الْخُرُوجِ عَنْهُ. وَقِيلَ: مِنَ الِاسْتِغْنَاءِ بِأَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ لِكَوْنِ الْآخَرِ تَبَعًا لَهُ، وَمَعْنًى مِنْ مَعَانِيهِ. وَمِنْهُ فِي أَحَدِ الْوُجُوهِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} (الشُّعَرَاءِ: 4) فَاسْتُغْنِيَ عَنْ خَبَرِ الْأَعْنَاقِ بِخَبَرِ أَصْحَابِهَا، وَالْأَصْلُ هُنَا: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، فَاسْتُغْنِيَ بِخَبَرِ الْمَحْذُوفِ عَنْ خَبَرِ الْمَوْجُودِ، وَسَوَّغَ ظُهُورَ ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} (الشُّورَى: 17) قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَمْ يَقُلْ (قَرِيبَةٌ) لِأَنَّ تَأْنِيثَهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَمَجَازَهَا الْوَقْتُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِتْيَانُهَا قَرِيبٌ. وَقِيلَ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِرِيحٍ صَرْصَرٍ (الْحَاقَّةِ: 6) وَلَمْ يَقُلْ: " صَرْصَرَةٍ " كَمَا قَالَ: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} (الْحَاقَّةِ: 6) لِأَنَّ الصَّرْصَرَ وَصْفٌ مَخْصُوصٌ بِالرِّيحِ لَا يُوصَفُ بِهِ غَيْرُهَا، فَأَشْبَهَ بَابَ " حَائِضٍ " وَنَحْوِهِ؛ بِخِلَافِ " عَاتِيَةٍ " فَإِنَّ غَيْرَ الرِّيحِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُؤَنَّثَةِ يُوصَفُ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} (الْمُزَّمِّلِ: 18) فَفِي تَذْكِيرِ (مُنْفَطِرٌ) خَمْسَةُ أَقْوَالٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ: أَحَدُهَا: لِلْفَرَّاءِ أَنَّ السَّمَاءَ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، فَجَاءَ (مُنْفَطِرٌ) عَلَى التَّذْكِيرِ. وَالثَّانِي: لِأَبِي عَلِيٍّ أَنَّهُ مِنْ بَابِ اسْمِ الْجِنْسِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدِهِ التَّاءُ، مُفْرَدُهُ سَمَاءَةٌ، وَاسْمُ الْجِنْسِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، نَحْوَ: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} (الْقَمَرِ: 20). وَالثَّالِثُ: لِلْكِسَائِيِّ، أَنَّهُ ذُكِّرَ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى السَّقْفِ. وَالرَّابِعُ: لِأَبِي عَلِيٍّ أَيْضًا عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ، أَيْ: ذَاتُ انْفِطَارٍ كَقَوْلِهِمْ: امْرَأَةٌ مُرْضِعٌ، أَيْ: ذَاتُ رِضَاعٍ. وَالْخَامِسُ: لِلزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ صِفَةٌ لِخَبَرٍ مَحْذُوفٍ مُذَكَّرٍ، أَيْ: شَيْءٌ مُنْفَطِرٌ. وَسَأَلَ أَبُو عُثْمَانَ الْمَازِنِيُّ بِحَضْرَةِ الْمُتَوَكِّلِ قَوْمًا مِنَ النَّحْوِيِّينَ، مِنْهُمُ ابْنُ السِّكِّيتِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ قَادِمٍ، عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} (مَرْيَمَ: 28) كَيْفَ جَاءَ بِغَيْرِ هَاءٍ، وَنَحْنُ نَقُولُ: امْرَأَةٌ كَرِيمَةٌ؛ إِذَا كَانَتْ هِيَ الْفَاعِلَ، وَبَغِيٌّ هُنَا الْفَاعِلُ وَلَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ " الْقَتِيلِ " الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى " الْمَفْعُولِ "؟ فَأَجَابَ ابْنُ قَادِمٍ وَخَلَطَ، فَقَالَ لَهُ الْمُتَوَكِّلُ: أَخْطَأْتَ، قُلْ يَا بَكْرُ لِلْمَازِنِيِّ، قَالَ: " بَغِيٌّ " لَيْسَ لِـ " فَعِيلٍ "، وَإِنَّمَا هُوَ " فَعُولٌ "، وَالْأَصْلُ فِيهِ (بَغُويٌ)، فَلَمَّا الْتَقَتْ وَاوٌ وَيَاءٌ وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ أُدْغِمَتِ الْوَاوُ فِي الْيَاءِ، فَقِيلَ: بَغِيٌّ، كَمَا تَقُولُ: امْرَأَةٌ صَبُورٌ، بِغَيْرِ هَاءٍ؛ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى صَابِرَةٍ، فَهَذَا حُكْمُ " فَعُولٍ " إِذَا عَدَلَ عَنْ فَاعِلِهِ، فَإِنْ عَدَلَ عَنْ مَفْعُولِهِ جَاءَ بِالْهَاءِ، كَمَا قَالَ: مِنْهَا اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ حَلُوبَةً *** بِمَعْنَى " مَحْلُوبَةٍ " حَكَاهُ التَّوْحِيدِيُّ فِي " الْبَصَائِرِ ". وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (يس: 78) وَلَمْ يَقُلْ: " رَمِيمَةٌ "؛ لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ عَنْ فَاعِلِهِ، وَكُلَّمَا كَانَ مَعْدُولًا عَنْ جِهَتِهِ وَوَزْنِهِ كَانَ مَصْرُوفًا عَنْ فَاعِلِهِ، كَقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} (مَرْيَمَ: 28) أَسْقَطَ الْهَاءَ؛ لِأَنَّهَا مَصْرُوفَةٌ عَنْ " بَاغِيَةٍ ". وَقَالَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هُودٍ: 118- 119) إِنَّ الضَّمِيرَ فِي (ذَلِكَ) يَعُودُ لِلرَّحْمَةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: وَ " لِتِلْكَ " لِأَنَّ تَأْنِيثَ الرَّحْمَةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} (الْكَهْفِ: 98) وَلَمْ يَقُلْ: هَذِهِ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَنْ رَحِمَ (هُودٍ: 119) كَمَا يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ يَدُلُّ عَلَى " أَنْ يَرْحَمَ "، وَيَجُوزُ رُجُوعُ الْكِنَايَةِ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَرْحَمَ، وَالتَّذْكِيرُ فِي مَوْضِعِهِ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هُودٍ: 119) كِنَايَةً عَنِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَكَوْنِهِمْ فِيهِ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَا مَحَالَةَ أَنَّهُ لِهَذَا خَلَقَهُمْ. وَيُطَابِقُ هَذِهِ الْآيَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذَّارِيَاتِ: 56) قَالَ: فَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (هُودٍ: 118) فَمَعْنَاهُ الِاخْتِلَافُ فِي الدِّينِ وَالذَّهَابُ عَنِ الْحَقِّ فِيهِ بِالْهَوَى وَالشُّبُهَاتِ، وَذَكَرَ أَبُو مُسْلِمِ بْنُ بَحْرٍ فِيهِ مَعْنًى غَرِيبًا فَقَالَ: مَعْنَاهُ: أَنَّ خَلَفَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ يَخْلُفُ سَلَفَهُمْ فِي الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ سَوَاءٌ قَوْلُكَ: خَلَفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَوْلُكَ: اخْتَلَفُوا، كَمَا سَوَاءٌ قَوْلُكَ: قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَوْلُكَ: اقْتَتَلُوا. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لَا أَفْعَلُهُ مَا اخْتَلَفَ الْعَصْرَانِ، أَيْ: جَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَعْدَ الْآخَرِ. وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} (النَّحْلِ: 66) فَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَيْ مِنْ بُطُونِ مَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: ذَكَّرَ لِأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الْمَعْنَى؛ يَعْنِي مَعْنَى النَّعَمِ، وَقِيلَ: الْأَنْعَامُ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَرَادَ الْبَعْضَ، أَيْ: مِنْ بُطُونِ أَيِّهَا كَانَ ذَا لَبَنٍ. وَأَنْكَرَ أَبُو حَاتِمٍ تَذْكِيرَ الْأَنْعَامِ، لَكِنَّهُ أَرَادَ مَعْنَى النَّعَمِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا} (الْمُؤْمِنُونَ: 11) فَأَنَّثَ (الْفِرْدَوْسَ) وَهُوَ مُذَكَّرٌ؛ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى الْجَنَّةِ. وَقَوْلِهِ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الْأَنْعَامِ: 160) فَأَنَّثَ " عَشْرُ " حَيْثُ جُرِّدَتْ مِنَ الْهَاءِ مَعَ إِضَافَتِهِ إِلَى الْأَمْثَالِ، وَوَاحِدُهَا مُذَكَّرٌ وَفِيهِ أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّثَ لِإِضَافَةِ الْأَمْثَالِ إِلَى مُؤَنَّثٍ؛ وَهُوَ ضَمِيرُ الْحَسَنَاتِ، وَالْمُضَافُ يَكْتَسِبُ أَحْكَامَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، فَتَكُونُ كَقَوْلِهِ: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} (يُوسُفَ: 10). وَالثَّانِي: هُوَ مِنْ بَابِ مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْأَمْثَالَ فِي الْمَعْنَى مُؤَنَّثَةٌ؛ لِأَنَّ مِثْلَ الْحَسَنَةِ حَسَنَةٌ لَا مَحَالَةَ، فَلَمَّا أُرِيدَ تَوْكِيدُ الْإِحْسَانِ إِلَى الْمُطِيعِ، وَأَنَّهُ لَا يَضِيعُ شَيْءٌ مِنْ عَمَلِهِ، كَأَنَّ الْحَسَنَةَ الْمُنْتَظَرَةَ وَاقِعَةٌ، جُعِلَ التَّأْنِيثُ فِي أَمْثَالِهَا مُنَبِّهَةً عَلَى ذَلِكَ الْوَضْعِ، وَإِشَارَةً إِلَيْهِ، كَمَا جُعِلَتِ الْهَاءُ فِي قَوْلِهِمْ: رَاوِيَةٌ وَعَلَّامَةٌ؛ تَنْبِيهًا عَلَى الْمَعْنَى الْمُؤَنَّثِ الْمُرَادِ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ الْغَايَةُ وَالنِّهَايَةُ، وَلِذَلِكَ أَنَّثَ الْمَثَلَ هُنَا تَوْكِيدًا لِتَصْوِيرِ الْحَسَنَةِ فِي نَفْسِ الْمُطِيعِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى لَهُ إِلَى الطَّاعَةِ، حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ: " فَلَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمْثَالُهَا " حُذِفَ، وَأُقِيمَتْ صِفَتُهُ مَقَامَهُ، وَرُوعِيَ ذَلِكَ الْمَحْذُوفُ الَّذِي هُوَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ، كَمَا يُرَاعَى الْمُضَافُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} (النُّورِ: 40) أَيْ: " أَوْ كَذِي ظُلُمَاتٍ " وَرَاعَاهُ فِي قَوْلِهِ: يَغْشَاهُ مَوْجٌ (النُّورِ: 40) وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَاهُ. وَأَمَّا ابْنُ جِنِّيٍّ فَذَكَرَ فِي " الْمُحْتَسِبِ " الْوَجْهَ الْأَوَّلَ، وَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا حَمَلْتَهُ عَلَى حَذْفِ الْمَوْصُوفِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: " فَلَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَأَمْثَالُهَا "؟ قِيلَ: حَذْفُ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةُ الصِّفَةِ مَقَامَهُ لَيْسَ بِمُسْتَحْسَنٍ فِي الْقِيَاسِ؛ وَأَكْثَرُ مَا أَتَى فِي الشِّعْرِ، وَلِذَلِكَ حُمِلَ (دَانِيَةً) مِنْ قَوْلِهِ: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا} (الْإِنْسَانِ: 14) عَلَى أَنَّهُ وَصْفُ جَنَّةٍ، أَوْ " وَجَنَّةً دَانِيَةً " عُطِفَ عَلَى " جَنَّةً " مِنْ قَوْلِهِ: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً} (الْإِنْسَانِ: 12) لَمَّا قَدَّرَ حَذْفَ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةَ الصِّفَةِ مَقَامَهُ، حَتَّى عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} (الْإِنْسَانِ: 13) فَكَانَتْ حَالًا مَعْطُوفَةً عَلَى حَالٍ. وَفِي " كَشْفِ الْمُشْكِلَاتِ " لِلْأَصْبِهَانِيِّ، حَذْفُ الْمَوْصُوفِ هُوَ اخْتِيَارُ سِيبَوَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَرَى حُسْنَ " ثَلَاثَةِ مُسْلِمِينَ " بِحَذْفِ الْمَوْصُوفِ، لَكِنَّ الْمَثَلَ وَإِنْ كَانَ مَعْنًى جَرَى مَجْرَى الِاسْمِ فِي " مَرَرْتُ بِمِثْلِكَ " وَلَا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْمَوْصُوفُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ لُقْمَانَ: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} (لُقْمَانَ: 16) فَأَنَّثَ الْفِعْلَ الْمُسْنَدَ لِـ " مِثْقَالَ " وَهُوَ مُذَكَّرٌ، وَلَكِنْ لَمَّا أُضِيفَ إِلَى " حَبَّةٍ " اكْتَسَبَ مِنْهُ التَّأْنِيثَ، فَسَاغَ تَأْنِيثُ فِعْلِهِ. وَذَكَرَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (آلِ عِمْرَانَ: 185) أَنَّ التَّأْنِيثَ فِي " ذَائِقَةُ " بِاعْتِبَارِ مَعْنَى (كُلُّ) لِأَنَّ مَعْنَاهَا التَّأْنِيثُ، قَالَ: لِأَنَّ كُلَّ نَفْسٍ نُفُوسٌ وَلَوْ ذَكَّرَ عَلَى لَفْظِ " كُلُّ " جَازَ، يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ قِيلَ: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقٌ كَذَا، جَازَ. وَهُوَ مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ اعْتِبَارُ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ " كُلُّ " إِذَا كَانَتْ نَكِرَةً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ (كُلُّ). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} (الْبَقَرَةِ: 271) فَإِنَّ الظَّاهِرَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْإِبْدَاءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 271) فَذَكَّرَ الضَّمِيرَ الْعَائِدَ عَلَى الْإِخْفَاءِ، وَلَوْ قَصَدَ الصَّدَقَاتِ لَقَالَ: " فَهِيَ " وَإِنَّمَا أَنَّثَ " هِيَ " وَالَّذِي عَادَ إِلَيْهِ مُذَكَّرٌ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: وَإِبْدَاؤُهَا نِعْمَ مَا هِيَ، كَقَوْلِهِ: الْقَرْيَةَ اسْأَلْهَا. وَمِنْهُ (سَعِيرًا) (الْفُرْقَانِ: 11) وَهُوَ مُذَكَّرٌ. ثُمَّ قَالَ: إِذَا رَأَتْهُمْ (الْفُرْقَانِ: 12) فَحَمَلَهُ عَلَى النَّارِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} (فُصِّلَتْ: 37) فَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي اللَّفْظِ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنَّمَا قَالَ: خَلَقَهُنَّ بِالتَّأْنِيثِ لِأَنَّهُ أُجْرِيَ عَلَى طَرِيقِ جَمْعِ التَّكْسِيرِ، وَلَمْ يُجْرَ عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيبِ لِلْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا لَا يَعْقِلُ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (النِّسَاءِ: 1): إِنَّ الْمُرَادَ آدَمُ فَأَنَّثَهُ رَدًّا إِلَى النَّفْسِ، وَقَدْ قُرِئَ شَاذًّا: " مِنْ نَفْسِ وَاحِدٍ ". وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ " اقْتَرَبَ " بِإِسْنَادِهِ إِلَى الْمُبَرِّدِ؛ سُئِلَ عَنْ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ، مِنْهَا: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} (يُونُسَ: 22) وَقَوْلِهِ: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} (الْأَنْبِيَاءِ: 81) وَقَوْلِهِ: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} (الْحَاقَّةِ: 7) وَ{كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} (الْقَمَرِ: 20) فَقَالَ: كُلُّ مَا وَرَدَ عَلَيْكَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَلَكَ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَى اللَّفْظِ تَذْكِيرًا، وَلَكَ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَى الْمَعْنَى تَأْنِيثًا، وَهَذَا مِنْ قَاعِدَةِ أَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ تَأْنِيثُهُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ؛ فَتَارَةً يُلْحَظُ مَعْنَى الْجِنْسِ فَيُذَكَّرُ، وَتَارَةً مَعْنَى الْجَمَاعَةِ فَيُؤَنَّثُ، قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} (هُودٍ: 94) وَفِي قِصَّةِ صَالِحٍ {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} (هُودٍ: 67) وَقَالَ: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} (الْبَقَرَةِ: 70) وَقُرِئَ: " تَشَابَهَتْ ". وَأَبْدَى السُّهَيْلِيُّ لِلْحَذْفِ وَالْإِثْبَاتِ مَعْنًى حَسَنًا فَقَالَ: إِنَّمَا حُذِفَتْ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الصَّيْحَةَ فِيهَا بِمَعْنَى الْعَذَابِ وَالْخِزْيِ، إِذْ كَانَتْ مُنْتَظِمَةً بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} (هُودٍ: 66) فَقَوِيَ التَّذْكِيرُ بِخِلَافِ قِصَّةِ شُعَيْبٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا ذَلِكَ. وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّ الصَّيْحَةَ يُرَادُ بِهَا الْمَصْدَرُ بِمَعْنَى الصِّيَاحِ، فَيَجِيءُ فِيهَا التَّذْكِيرُ، فَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا الْوَحْدَةُ مِنَ الْمَصْدَرِ، فَيَكُونُ التَّأْنِيثُ أَحْسَنَ. وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنِ الْعَذَابِ الَّذِي أَصَابَ بِهِ قَوْمَ شُعَيْبٍ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ كُلُّهَا مُفْرَدَةُ اللَّفْظِ: أَحَدُهَا: الرَّجْفَةُ، فِي قَوْلِهِ: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} (الْعَنْكَبُوتِ: 37). وَالثَّانِي: الظُّلَّةُ، فِي قَوْلِهِ: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} (الشُّعَرَاءِ: 189). وَالثَّالِثُ: الصَّيْحَةُ، وَجَمَعَ لَهُمُ الثَّلَاثَةَ؛ لِأَنَّ الرَّجْفَةَ بَدَأَتْ بِهِمْ فَأَصْحَرُوا فِي الْفَضَاءِ خَوْفًا مِنْ سُقُوطِ الْأَبْنِيَةِ عَلَيْهِمْ، فَضَرَبَتْهُمُ الشَّمْسُ بِحَرِّهَا، وَرُفِعَتْ لَهُمُ الظُّلَّةُ، فَهُرِعُوا إِلَيْهَا يَسْتَظِلُّونَ بِهَا مِنَ الشَّمْسِ، فَنَزَلَ عَلَيْهِمْ فِيهَا الْعَذَابُ وَفِيهِ الصَّيْحَةُ، فَكَانَ ذِكْرُ الصَّيْحَةِ مَعَ الرَّجْفَةِ وَالظُّلَّةِ أَحْسَنَ مِنْ ذِكْرِ الصِّيَاحِ، فَكَانَ ذِكْرُ التَّاءِ أَحْسَنَ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} (النَّحْلِ: 36) وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} (الْأَعْرَافِ: 30). قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: لَفْظِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ: أَمَّا اللَّفْظِيُّ، فَهُوَ أَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} (الْأَعْرَافِ: 30) أَكْثَرُ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ: {حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} (النَّحْلِ: 36) وَالْحَذْفُ مَعَ كَثْرَةِ الْحَوَاجِزِ أَحْسَنُ. وَأَمَّا الْمَعْنَوِيُّ فَهُوَ أَنَّ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} (النَّحْلِ: 36) رَاجِعَةٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ لَفْظًا، بِدَلِيلِ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} (النِّحْلِ: 36) ثُمَّ قَالَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} (النَّحْلِ: 36) أَيْ: مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ، وَلَوْ قَالَ: " ضَلَّتْ " لَتَعَيَّنَتِ التَّاءُ، وَالْكَلَامَانِ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا فَكَانَ إِثْبَاتُ التَّاءِ أَحْسَنَ مِنْ تَرْكِهَا؛ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِيمَا هُوَ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ الْمُتَأَخِّرِ. وَأَمَّا: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} (الْأَعْرَافِ: 30) فَالْفَرِيقُ مُذَكَّرٌ، وَلَوْ قَالَ: " ضَلُّوا " لَكَانَ بِغَيْرِ تَاءٍ، وَقَوْلُهُ: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} (الْأَعْرَافِ: 30) فِي مَعْنَاهُ، فَجَاءَ بِغَيْرِ تَاءٍ، وَهَذَا أُسْلُوبٌ لَطِيفٌ مِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ، أَنْ يَدَعُوا حُكْمَ اللَّفْظِ الْوَاجِبِ فِي قِيَاسِ لُغَتِهِمْ، إِذَا كَانَ فِي مُرَكَّبِهِ كَلِمَةٌ لَا يَجِبُ لَهَا حُكْمُ ذَلِكَ الْحُكْمِ.
تَنْبِيهٌ: جَاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " ذَكِّرُوا الْقُرْآنَ " فَفَهِمَ مِنْهُ ثَعْلَبٌ أَنَّ مَا احْتُمِلَ تَأْنِيثُهُ وَتَذْكِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَانَ تَذْكِيرُهُ أَجْوَدَ. وَرُدَّ بِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ إِرَادَةُ تَذْكِيرِ غَيْرِ الْحَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ؛ لِكَثْرَةِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْهُ بِالتَّأْنِيثِ: {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ} (الْحَجِّ: 72) {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} (الْقِيَامَةِ: 29) {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ} (إِبْرَاهِيمَ: 11) وَإِذَا امْتَنَعَ إِرَادَةُ غَيْرِ الْحَقِيقِيِّ، فَالْحَقِيقِيُّ أَوْلَى. قَالُوا: وَلَا يَسْتَقِيمُ إِرَادَةُ أَنَّ مَا احْتَمَلَ التَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ غُلِّبَ فِيهِ التَّذْكِيرُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} (ق: 10) {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} (الْحَاقَّةِ: 7) فَأَنَّثَ مَعَ جَوَازِ التَّذْكِيرِ، قَالَ تَعَالَى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} (الْقَمَرِ: 20) {مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ} (يس: 80) قَالَ: فَلَيْسَ الْمُرَادُ مَا فُهِمَ، بَلِ الْمُرَادُ الْمَوْعِظَةُ وَالدُّعَاءُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ} (ق: 45) إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ الْجَارُّ، وَالْمَقْصُودُ: ذَكِّرُوا النَّاسَ بِالْقُرْآنِ، أَيِ: ابْعَثُوهُمْ عَلَى حِفْظِهِ كَيْلَا يَنْسَوْهُ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ثَعْلَبٌ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ إِذَا احْتَمَلَ اللَّفْظُ التَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ وَلَمْ يُحْتَجْ فِي التَّذْكِيرِ إِلَى مُخَالَفَةِ الْمُصْحَفِ ذُكِّرَ، نَحْوُ: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} (الْبَقَرَةِ: 48). قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى إِرَادَتِهِ هَذَا أَنَّ أَصْحَابَ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ كَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ ذَهَبُوا إِلَى هَذَا فَقَرَءُوا مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بِالتَّذْكِيرِ؛ نَحْوَ: " يَوْمَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ " (النُّورِ: 24) وَهَذَا فِي غَيْرِ الْحَقِيقِيِّ. ضَابِطُ التَّأْنِيثِ ضَرْبَانِ حَقِيقِيٌّ وَغَيْرُهُ، فَالْحَقِيقِيُّ لَا يُحْذَفُ التَّأْنِيثُ مِنْ فِعْلِهِ غَالِبًا، إِلَّا أَنْ يَقَعَ فَصْلٌ نَحْوُ: قَامَ الْيَوْمَ هِنْدٌ، وَكُلَّمَا كَثُرَ الْفَصْلُ حَسُنَ الْحَذْفُ، وَالْإِثْبَاتُ مَعَ الْحَقِيقِيِّ أَوْلَى مَا لَمْ يَكُنْ جَمْعًا. وَأَمَّا غَيْرُ الْحَقِيقِيِّ فَالْحَذْفُ فِيهِ مَعَ الْفَصْلِ حَسَنٌ، قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ} (الْبَقَرَةِ: 275) فَإِنْ كَثُرَ الْفَصْلُ ازْدَادَ حُسْنًا، وَمِنْهُ: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} (هُودٍ: 67) وَيَحْسُنُ الْإِثْبَاتُ أَيْضًا نَحْوُ: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} (هُودٍ: 94) فَجُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي سُورَةِ هُودٍ. وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى تَرْجِيحِ الْحَذْفِ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَهُ عَلَيْهِ حَيْثُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي سُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ.
قَدْ سَبَقَ مِنْهُ كَثِيرٌ فِي نَوْعِ الِالْتِفَاتِ؛ وَيَغْلِبُ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَ مَدْلُولُ الْفِعْلِ مِنَ الْأُمُورِ الْهَائِلَةِ الْمُهَدِّدَةِ الْمُتَوَعَّدِ بِهَا، فَيَعْدِلُ فِيهِ إِلَى لَفْظِ الْمَاضِي تَقْرِيرًا وَتَحْقِيقًا لِوُقُوعِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} (النَّمْلِ: 87). وَقَوْلِهِ فِي الزُّمَرِ: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ} (الزُّمَرِ: 68). وَقَوْلِهِ: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} (إِبْرَاهِيمَ: 21). وَقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ} (الْكَهْفِ: 47) أَيْ: نَحْشُرُهُمْ. وَقَوْلِهِ: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا} (الْأَعْرَافِ: 48) ثُمَّ تَارَةً يُجْعَلُ الْمُتَوَقَّعُ فِيهِ كَالْوَاقِعِ، فَيُؤْتَى بِصِيغَةِ الْمَاضِي مُرَادًا بِهِ الْمُضِيُّ؛ تَنْزِيلًا لِلْمُتَوَقَّعِ مَنْزِلَةَ مَا وَقَعَ، فَلَا يَكُونُ تَعْبِيرًا عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي، بَلْ جُعِلَ الْمُسْتَقْبَلُ مَاضِيًا مُبَالَغَةً. وَمِنْهُ: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} (النَّحْلِ: 1) {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} (الْأَعْرَافِ: 44) وَنَحْوُهُ. وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِالْمَاضِي مُرَادًا بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ؛ فَهُوَ مَجَازٌ لَفْظِيٌّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ} (النَّمْلِ: 87) فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُضِيُّ، لِمُنَافَاةِ (يَنْفَخُ) الَّذِي هُوَ مُسْتَقْبَلٌ فِي الْوَاقِعِ، وَفَائِدَةُ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِالْمَاضِي الْإِشَارَةُ إِلَى اسْتِحْضَارِ التَّحَقُّقِ، وَإِنَّهُ مِنْ شَأْنِهِ لِتَحَقُّقِهِ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ مَعْنَاهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَوَّلَ مَجَازٌ، وَالثَّانِيَ لَا مَجَازَ فِيهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ فَقَطْ. وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى} (الْمَائِدَةِ: 116) أَيْ: يَقُولُ. عَكَسَهُ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ يُرَادُ بِهِ الدَّيْمُومَةُ وَالِاسْتِمْرَارُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} (الْبَقَرَةِ: 44). وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (آلِ عِمْرَانَ: 59) أَيْ: فَكَانَ. اسْتِحْضَارًا لِصُورَةِ تَكَوُّنِهِ. وَقَوْلِهِ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} (الْبَقَرَةِ: 102) أَيْ: مَا تَلَتْ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ (الْحِجْرِ: 97) أَيْ: عَلِمْنَا. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُتَصَوَّرُ التَّقْلِيلُ فِي عِلْمِ اللَّهِ؟ قِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَقَلُّ مَعْلُومَاتِهِ، وَلِأَنَّ الْمُضَارِعَ هُنَا بِمَعْنَى الْمَاضِي، فَـ " قَدْ " فِيهِ لِلتَّحْقِيقِ لَا التَّقْلِيلِ. وَقَوْلِهِ: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 91) أَيْ: فَلِمَ قَتَلْتُمْ. وَقَوْلِهِ: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} (الْبَيِّنَةِ: 1) أَيْ: لَمْ يَتَعَارَفُوا حَتَّى تَأْتِيَهُمْ. وَقَوْلُهُ: مُنْفَكِّينَ (الْبَيِّنَةِ: 1) قَالَ مُجَاهِدٌ: " مُنْتَهِينَ "، وَقِيلَ: زَائِلِينَ مِنَ الدُّنْيَا. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ " مَا انْفَكَّ " وَ " مَا زَالَ "، إِنَّمَا هُوَ مِنِ انْفِكَاكِ الشَّيْءِ: إِذَا انْفَصَلَ عَنْهُ. وَقَوْلِهِ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} (الْمَائِدَةِ: 18) الْمَعْنَى: فَلِمَ عَذَّبَ آبَاءَكُمْ بِالْمَسْخِ وَالْقَتْلِ؟ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يُؤْمَرْ بِأَنْ يَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ؛ لِأَنَّ الْجَاحِدَ يَقُولُ: إِنِّي لَا أُعَذَّبُ، لَكِنِ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا قَدْ كَانَ. وَقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} (الْحَجِّ: 63) فَعَدَلَ عَنْ لَفْظِ " أَصْبَحَتْ " إِلَى " تُصْبِحُ " قَصْدًا لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَحْقِيقِ اخْضِرَارِ الْأَرْضِ لِأَهَمِّيَّتِهِ إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْإِنْزَالِ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ النُّحَاةُ: إِنَّهُ يَجِبُ نَصْبُ الْفِعْلِ الْمَقْرُونِ بِالْفَاءِ إِذَا وَقَعَ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} (الْأَعْرَافِ: 53) وَ " فَتُصْبِحُ " هُنَا مَرْفُوعٌ. قُلْتُ: لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ شَرْطَ الْفَاءِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلنَّصْبِ أَنْ تَكُونَ سَبَبِيَّةً، وَهُنَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ لِلِاسْتِئْنَافِ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ لَيْسَتْ سَبَبًا لِلْإِصْبَاحِ. الثَّانِي: أَنَّ شَرْطَ النَّصْبِ أَنْ يَنْسَبِكَ مِنَ الْفَاءِ وَمَا قَبْلَهَا شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: إِنْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مَاءً تُصْبِحْ؛ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ إِصْبَاحَ الْأَرْضِ حَاصِلٌ سَوَاءٌ رُئِيَ أَمْ لَا. فَإِنْ قِيلَ: شَاعَ فِي كَلَامِهِمْ إِلْغَاءُ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَزَالُ- تَرَاهَا- ظَالِمَةً، أَيْ: وَلَا تَزَالُ ظَالِمَةً، وَحِينَئِذٍ فَالْمَعْنَى مُنْصَبٌّ إِلَى الْإِنْزَالِ لَا إِلَى الرُّؤْيَةِ؛ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: " إِنْ أَنْزَلَ تُصْبِحُ " فَقَدِ انْعَقَدَ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ. قُلْتُ: إِلْغَاءُ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ فِي كَلَامِهِمْ جَائِزٌ لَا وَاجِبٌ؛ فَمِنْ أَيْنَ لَنَا مَا يَقْتَضِي تَعْيِينَ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَيْهِ؟ الثَّالِثُ: إِنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى مُوجَبٍ تَقْلِبُهُ إِلَى النَّفْيِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (الْمَائِدَةِ: 116) وَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى نَفْيٍ تَقْلِبُهُ إِلَى الْإِيجَابِ، فَالْهَمْزَةُ فِي الْآيَةِ لِلتَّقْرِيرِ، فَلَمَّا انْتَقَلَ الْكَلَامُ مِنَ النَّفْيِ إِلَى الْإِيجَابِ لَمْ يَنْتَصِبِ الْفِعْلُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ النَّفْيِ كَوْنُ السَّابِقِ مَنْفِيًّا مَحْضًا، ذَكَرَهُ الْعَزِيزِيُّ فِي " الْبُرْهَانِ ". وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا} (السَّجْدَةِ: 27). الرَّابِعُ: " أَنَّهُ لَوْ نَصَبَ لَأَعْطَى مَا هُوَ عَكْسُ الْغَرَضِ؛ لَأَنَّ مَعْنَاهُ إِثْبَاتُ الِاخْضِرَارِ، فَكَانَ يَنْقَلِبُ بِالنَّصْبِ إِلَى نَفْيِ الِاخْضِرَارِ، مِثَالُهُ أَنْ تَقُولَ لِصَاحِبِكَ: أَلَمْ تَرَ أَنِّي أَنْعَمْتُ فَتَشْكُرُ! إِنْ نَصَبْتَ فَأَنْتَ نَافٍ لِشُكْرِهِ، شَاكٍ تَفْرِيطَهُ، وَإِنْ رَفَعْتَ فَأَنْتَ مُثْبِتٌ لِشُكْرِهِ. ذَكَرَ هَذَا الزَّمَخْشَرِيُّ فِي " الْكَشَّافِ " قَالَ: وَهَذَا وَمِثَالُهُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يَرْغَبَ لَهُ مَنِ اتَّسَمَ بِالْعِلْمِ فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ وَتَوْقِيرِ أَهْلِهِ ". وَقَالَ ابْنُ الْخَبَّازِ: النَّصْبُ يُفْسِدُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْمُخَاطَبِ الْمَاءَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ لَيْسَ سَبَبًا لِلِاخْضِرَارِ؛ وَإِنَّمَا الْمَاءُ نَفْسُهُ هُوَ سَبَبُ الِاخْضِرَارِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} (فَاطِرٍ: 9). فَقَالَ: " تُثِيرُ " مُضَارِعًا، وَمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ مَاضِيًا؛ مُبَالَغَةً فِي تَحْقِيقِ إِثَارَةِ الرِّيَاحِ السَّحَابَ لِلسَّامِعِينَ وَتَقْدِيرِ تَصَوُّرِهِ فِي أَذْهَانِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: أَهَمُّ الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى، وَقَدْ ذُكِرَ بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَمَا ذَكَرْتَهُ يَقْتَضِي أَوْلَوِيَّةَ ذِكْرِهِ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ، إِذْ هُوَ أَهَمُّ، وَإِثَارَةُ السَّحَابِ سَبَبٌ أُعِيدَ عَلَى قَرِيبٍ. قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ بِأَهَمِّيَّةِ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَالْمُقَدَّمَاتُ الْمَذْكُورَةُ أَهَمُّهَا وَأَدَلُّهَا عَلَى الْقُدْرَةِ أَعْجَبُهَا وَأَبْعَدُهَا عَنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، وَإِثَارَةُ السَّحَابِ أَعْجَبُهَا، فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّخْصِيصِ بِالْمُضَارِعِ، وَإِنَّمَا قَالَ: إِنَّ إِثَارَةَ السَّحَابِ أَعْجَبُ؛ لِأَنَّ سَبَبَهَا أَخْفَى مِنْ حَيْثُ أَنَّا نَعْلَمُ بِالْفِعْلِ أَنَّ نُزُولَ الْمَاءِ سَبَبٌ فِي اخْضِرَارِ الْأَرْضِ، وَإِثَارَةُ السَّحَابِ وَسَوْقُهُ سَبَبُ نُزُولِ الْمَاءِ، فَلَوْ خُلِّينَا وَظَاهِرَ الْعَقْلِ لَمْ نَعْلَمْ أَنَّ الرِّيَاحَ سَبَبُهَا؛ لِعَدَمِ إِحْسَاسِنَا بِمَادَّةِ السَّحَابِ وَجِهَتِهِ، وَلَطَافَةِ الرِّيحِ عَنْ إِدْرَاكِ الْحِسِّ. وَمِنْ لَوَاحِقِ ذَلِكَ الْعُدُولُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ إِلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ؛ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْمَاضِي، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} (هُودٍ: 103) تَقْرِيرًا لِلْجَمْعِ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَادًا لِلنَّاسِ مَضْرُوبًا لِجَمِيعِهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَوَازِنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} (التَّغَابُنِ: 9) لِتَعْرِفَ صِحَّةَ هَذَا الْمَعْنَى. فَإِنْ قُلْتَ: الْمَاضِي أَدَلُّ عَلَى هَذَا الْمَقْصُودِ مِنِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، فَلِمَ عُدِلَ عَنْهُ إِلَى مَا دَلَالَتُهُ أَضْعَفُ؟ قُلْتُ: لِتَحْصُلَ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ " مَجْمُوعٍ " وَ " مَشْهُودٍ " فِي اسْتِوَاءِ شَأْنِهِمَا طَلَبًا لِلتَّعْدِيلِ فِي الْعِبَارَةِ. وَمِنْهُ الْعُدُولُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ إِلَى اسْمِ الْفَاعِلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} (الذَّارِيَاتِ: 6) فَإِنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَيْسَ حَقِيقَةً فِي الِاسْتِقْبَالِ، بَلْ فِي الْحَالِ.
هِيَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا- وَهُوَ الْأَكْثَرُ- الْمُشَاكَلَةُ بِالثَّانِي لِلْأَوَّلِ، نَحْوُ: " أَخْذُهُ مَا قَدُمَ وَمَا حَدَثَ " وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} (الْمَائِدَةِ: 6) عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، وَأَنَّ الْجَرَّ لِلْجِوَارِ {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا} (الرَّحْمَنِ: 6- 7). وَقَدْ تَقَعُ الْمُشَاكَلَةُ بِالْأَوَّلِ لِلثَّانِي كَمَا فِي قِرَاءَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ: " الْحَمْدِ لِلَّهِ " (الْفَاتِحَةِ: 2) بِكَسْرِ الدَّالِ، وَهِيَ أَفْصَحُ مِنْ ضَمِّ اللَّامِ لِلدَّالِ.
|